الكولونيالية.. ألا تزال موضع تساؤل؟...تصنيفات الكولونيالية أعطتنا القدرة على تجريب أنفسنا كآخر
بعد مناقشة دقيقة ومتابعة لمفهوم الكولونيالية تصل المؤلفة (آنيالومبا) في كتابها المهم والضروري (الكولونيالية وما بعدها) الذي ترجمه الدكتور باسل المسالمة ونشرته دار التكوين بدمشق إلى خلاصة مهمة عن الكولونيالية وتعريفها، وأجدني راغباً في الالتصاق بهذا التتابع السلس لمفهوم نردده كثيراً ولا ندرك كنهه ودواخله، ولمصطلح عميق لم يقف عند حد معين، والكاتبة برؤيتها العميقة السابرة للأغوار ربطت هذا المصطلح بواقعنا، وإن لم يأخذ نصيبه من الدراسة والشيوع، إلا أنه ومن خلال المتابعة ندرك أنه المصطلح الأخطر الذي تولدت عنه مصطلحات أخرى لعبت بحياتنا الثقافية والسياسية والاقتصادية، مثل الأيديولوجية والعولمة
فماذا عن الكولونيالية (الاستيلاء بالقوة على الأرض والاقتصاد، وإعادة هيكلة الاقتصادات غير الرأسمالية من أجل دعم الرأسمالية الأوروبية، وهذا يتيح لنا فهم الكولونيالية الأوروبية الحديثة، ليس بوصفها حافزاً عابراً للتاريخ هدفه الإخضاع، وإنما بوصفه جزءاً لا يتجزأ من التطور الرأسمالي)؟
وماذا عن علاقته بالثقافة والنقد والفكر والإنسان؟ وما علاقته بالمفكرين والفلاسفة؟ وماذا يربطه باللغة والأيديولوجية والعولمة؟ وأسئلة أخرى كثيرة يمكن أن تجيبنا عنها الكاتبة في واحد من أعمق المصنفات في هذا الموضوع.
الكولونيالية وما بعدها ومكانتها
قد يتوهم أحدنا أن الكولونيالية مفهوم سياسي بحت، وقد كانت كذلك، ولكن ما جاء من دراسة في هذا الكتاب المهم من فهم عميق لها يجعل القارئ يعيد النظر، لينطلق المصطلح من مفهوم الاستيلاء، ومن ثم إلى إعادة الهيكلة، ومن ثم ترتيب المجتمع، وقد استطاعت المؤلفة بحذق أن تدلف من المفهوم العام إلى الخاص ومن الخاص إلى العام، لنجد الكولونيالية متسللة إلى صنوف الثقافة العديدة، وإلى اللغة والنقد، ولا تكون الهيمنة إلا بالاستيلاء على الرؤية، ولا تكون الرؤية إلا بالثقافة والأدب والنقد واللغة، ومن هنا أشير إلى أننا وقعنا تحت وطأة الاستيلاء وإعادة الهيكلة والاستلاب الكولونيالي لأننا لم نعر هذه الجوانب حقها من العناية والدرس، ظانين أن الخطر يكمن في القوة والسلاح وحسب، لكن ما كان، كان أخطر من ذلك بكثير، فهو زرع طويل الأجل وبعيد المدى ولننظر في سياق الأثر الكولونيالي الثقافي الخطير في ضوء قراءة عطيل لشكسبير، وفي ضوء العروض والقراءات: «إن وضع عطيل في إحدى الثقافات التابعة لجذوره هو بمنزلة السماح لنا بإعادة التفكير في تاريخ المسرحية كله.. إن حالة عطيل بالطبع لا تترجم بالضبط السياق الأوروبي اليوم، لأن المجتمعات الحضرية غيّرت الآن ألوانها حرفياً، إن خلفاء عطيل ليسوا وحيدين تماماً، ومع ذلك يواجه الآسيويون البريطانيون بعض الضغوط حول هويتهم.. وسنرى أن العديد من الكتابات حول ما بعد الكولونيالية تؤكد مفاهيم التهجين والتشرذم والتنوع..».
نحن إذاً أمام فهم واسع الطيف للكولونيالية بوصفها وسيلة هيمنة وفرض، وهي التي مارست صلاحياتها في الشرذمة والتهجين والتنوع، بل دخلت في الذات والمرأة والجندر والموقع والعرق والطائفة والأيديولوجيا.. وتؤكد الكاتبة خطورة الكولونيالية، فقد هيمنت على 85% من اليابسة منذ ثلاثينيات القرن العشرين وما ذكرته الكاتبة يؤكد أن هذه النزعة التسلطية لا تزال تحكم حياتنا ومجتمعاتنا، وخاصة مع قدرة الكولونيالية على التلون واستيلاد توابعها من الأيديولوجية وصولاً إلى العولمة..
الكولونيالية والهوية والمجتمع
يختصر المترجم خفايا هذا الكتاب بكلمة مباشرة حين يقول: من أهم الكتب التي قدمت لموضوع الاستعمار وما بعده حتى الآن.. ويتناول الكتاب نقاطاً مهمة مثل السمات الأساسية لإيديولوجيات الكولونيالية وتواريخها, وعلاقة الخطاب الكولونيالي بالأدب.. وعلاقة الكولونيالية بالفكر النسوي وما بعد الكولونيالي، والجدالات الدائرة بين العولمة وما بعد الكولونيالية، ويقارن بين مجالات الدراسة المتعددة والسياقات الثقافية.. وإذا ما استعرضنا فصول الكتاب وجدنا تلك الأهمية فمن تحديد مكانة الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية إلى الهويات الكولونيالية وما بعدها، إلى مناهضة الكولونيالية، لتختم الكاتبة بالحديث عن العولمة ومستقبل الدراسات ما بعد الكولونيالية.. وبعد أن حدد الكاتب المترجم هوية الكولونيالية الاستعمارية، مستهدياً بسمة السيطرة التي وقفت عندها الكاتبة (أعادت الكولونيالية تشكيل بنى المعرفة الإنسانية القائمة، فلم يبق فرع من فروع التعليم بمنأى عن التجربة الكولونيالية. وأحد الجوانب الأساسية لهذه العملية هو جمع وترتيب المعلومات حول الأراضي والشعوب التي زارتها القوى الكولونيالية، وأخضعتها لاحقاً لها).
فالموشورية التي حملها مصطلح الكولونيالية، واللبس الذي يتشكل لدى المتلقي عند استقباله جعله مقبولاً نوعاً ما، وخاصة مع النهضة والمعرفة، وانسراب المصطلح الكولونيالي إلى شتى جوانب المعرفة الإنسانية، وقد أعربت المؤلفة صراحة عن أثر الكولونيالية، حين قالت بأنه لم يبق فرع من فروع التعلم بمنأى عن تأثير الكولونيالية والهيمنة، وإذا ما نظرنا في النص المقتبس، وفيما حولنا من أمور وشؤون فهل نجد أنفسنا بعيدين عن تأثيرات الكولونيالية؟ وحتى لا يذهب الظن بعيداً، وأكون مسوّغاً لنظرية المؤامرة والخارج والمخطط، يمكن لي أن أسأل: ماذا فعلنا نحن أمام هذه النظريات القائمة على الهيمنة على جميع مناحي الحياة والتعليم؟! إن هذه النظرية وسواها، وما تبعها من نظريات حداثية في الأدب والنقد وتوابعها كانت واضحة ومقروءة للجميع، وما علينا سوى الانخراط في هذا الحراك العالمي بما يناسب مجتمعاتنا، لكننا سرنا في اتجاهين متعارضين أحدهما يقوم على المواجهة والرفض الذي لا طائل منه! والثاني يقوم على القبول بالاستلاب والارتهان دون وجود عدة لدينا للمقارعة والمجابهة! وكلا الاتجاهين كان كارثياً على ثقافاتنا وحياتنا ومصيرنا.
التضاد وما نتج عنه: تعرض الكاتبة في بحثها عن الهوية والعرق والاختلاف في عدد من الرؤى التي حاولت أن تسود الساحة الثقافية والسياسية، وقد أفلحت إلى حد كبير، ومنذ مطلع القرن العشرين (بنيت الهويات المسيحية بشكل معارض للإسلام أو اليهودية أو عبادة الأوثان، التي ضمت إلى حد ما الديانات الأخرى كافة، وعبادة الطبيعة، والوثنية والأرواحية، وكان الإسلام بادئ الأمر المعارض الثاني السائد للمسيحية والمهدد لها، وهكذا بات الاختلاف الديني دليلاً على الاختلافات المعرفية والثقافية والعنصرية ومجازاً لها).
هكذا بني العالم ليصبح الدين مميزاً وبديلاً من الهوية والقومية، وليصبح طرفاً في معادلة العدوانية التي أرادوا لها أن تحمل سمة العصر، فهل كنا قادرين على تغيير هذا المفهوم بالهوية؟ أظن أننا عرفنا، ولكننا أضفنا صراعاً إثنياً غاية في الأهمية وربما تجاوز الإثنية بكثير، فأحدنا علماني عربي مسلم أو مسيحي وربما مناطقي! فلم تعد كل النظريات بحاجة إلى تكريس بجهودنا نحن في التشتت، وقد أشارت المؤلفة بحذق وحيادية إلى الدور القادم من العالم المتحضر الناهض الذي يحتاج إلى أتباع ليرتفع أكثر.. تغذي هذه الاختلافات الصور النمطية الكولونيالية، فقد تم تصور الشعوب الأصلية في العالم الجديد بأنها ولدت بسبب لقائها مع أوروبا، وبناء عليه، يحيط بهم خطاب البدائية، ومن جهة أخرى، تم بناء الشرق على أنه بربري أو منحط، وسافر الأوروبيون في كلا الاتجاهين بحثاً عن الثروة» هكذا تأسس الفكر الكولونيالي للبحث عن الثروة، والقيام بالتصنيف الذي يجعل الشرق جاهزاً للهيمنة، ويجعل الأوروبيين متقبلين لفكرة الهيمنة ما دام أن الشرق همجياً وبربرياً!
تعزيز التقسيم المجتمعي
لم يكن الفكر الكولونيالي فكراً سياسياً بحتاً، ولم يكن نظرية سياسية، إذ غالباً ما تزول النظرية السياسية بزوال الظروف، ولكن الفكر الكولونيالي الساعي إلى الثروة والهيمنة والسيطرة، عمل على التغلغل في أعماق المجتمع والنقد والرواية، فهذه طبقية جين إير في الرواية، وهذه الكولونيالية تدخل في صلب المجتمع لتشكل فيما بعد جزءاً من الجندر الذي لا يزال هدفاً عالمياً مع ماله وما عليه، وهذه القراءة النقدية المميزة وفقد رؤية الهيمنة تدخل في مفاهيم الذكورة والأنوثة واللواطة، والأخيرة تدخل في هذا النقد ضمن الخانة الشرقية «ترمز أجساد النساء للأرض المحتلة، وهذا الاستخدام المجازي لجسد المرأة يختلف حسب مقتضيات بعض الأوضاع الكولونيالية وتواريخها.. بالمقارنة مع عري أميركا أو إفريقيا في التمثيليات التصويرية الحديثة والمبكرة، كانت آسيا دائماً مكسوة بشكل مترف..» وتذكر الكاتبة كيف استطاعت الكولونيالية تكوين نظرة اقتضتها الهيمنة «عمقت الكولونيالية الروابط بين الأراضي الأجنبية والممارسات الجنسية المنحرفة، وزعم ريتشارد بيرتون، مترجم ألف ليلة وليلة أن ثمة منطقة تسمى سوتاديك تكون فيها اللواطة شعبية ومتفشية، ومثل هذه الصورة النمطية للانحراف الشرقي مدفونة على نحو راسخ في الخيال الغربي المهيمن..» وفي كل الدراسات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية كان الفكر الكولونيالي يعتمد على المراقبة كآخر حيادي، ويرسم ما يشاء، ويصور ويعزز ما يريده في المجتمعات التي رآها مصدراً للثروة.. وبقي دور النخب العربية والشرقية المشاركة في الهيمنة، ومقاسمة الفكر الكولونيالي فكرة الاستعمار والسيطرة والهيمنة وترسيخ المفهومات، وتعزيز التقسيم المجتمعي لحساباته الخاصة التي تلتقي بفكر الهيمنة.. ويدخل الفكر الكولونيالي في عمق ما لا ننتبه إليه لأنه وسيلة للتدخل «أصبح بإصلاح وضع المرأة أمراً أساسياً بالنسبة للحكم الكولونيالي.. وأصبح الخمار رمزاً لكل ما هو محبط حول الوضع الكولونيالي للمستعمرين.. أصبح كشف الخمار عن المرأة العربية هاجساً يسبق اغتصابها..».
أسوق هذه الأمثلة للوصول إلى عمق النظرة الكولونيالية التي تجاوزت حد الهيمنة والثروة لتتناول البنية الاجتماعية، وتسبغ الهوية الدينية رمزاً للعرق والقومية وما يتبعها، وهذا ما يفسر القوة التي تمتع بها الفكر الكولونيالي القائم على التشريح وليس على التنظير، وهذا ما أتاح له التطور والتغير والتوالد ليصل إلى المحطة التي نشهدها اليوم وقد تتغير لاحقاً.. العولمة..
الكولونيالية وما بعدها لآنيالومبا من الكتب المهمة التي تحتاج قراءة متدبرة من قمم الهرم السياسي إلى كل قارئ، بل يحتاج إلى تدريس على مستوى واسع لما فيه من معلومات مهمة تتعلق بمجتمعاتنا والنظرة إليها من الآخر المتفوق في كل شيء، فهل يكون مجرد كتاب عابر؟!
إرسال تعليق